قصة بني إسرائيل ونكثهم عهد الله وحرمانهم من الخلافة
صفحة 1 من اصل 1
قصة بني إسرائيل ونكثهم عهد الله وحرمانهم من الخلافة
تقديم الوحدة الثالثة ابتداء من هذا المقطع في السورة يواجه السياق بني إسرائيل ، وأولئك الذين واجهوا الدعوة في المدينة مواجهة نكرة ؛ وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة ؛ وكادوا لها كيدا موصولا ، لم يفتر لحظة منذ أن ظهر الإسلام بالمدينة ؛ وتبين لهم أنه في طريقه إلى الهيمنة على مقاليدها ، وعزلهم من القيادة الأدبية والاقتصادية التي كانت لهم ، مذ وحد الأوس والخزرج ، وسد الثغرات التي كانت تنفذ منها يهود ، وشرع لهم منهجا مستقلا ، يقوم على أساس الكتاب الجديد . . هذه المعركة التي شنها اليهود على الإسلام والمسلمين منذ ذلك التاريخ البعيد ثم لم يخب أوارها حتى اللحظة الحاضرة ، بنفس الوسائل ، ونفس الأساليب ، لا يتغير إلا شكلها ؛ أما حقيقتها فباقية ، وأما طبيعتها فواحدة ، وذلك على الرغم من أن العالم كله كان يطاردهم من جهة إلى جهة ، ومن قرن إلى قرن ، فلا يجدون لهم صدرا حنونا إلا في العالم الإسلامي المفتوح ، الذي ينكر الاضطهادات الدينية والعنصرية ، ويفتح أبوابه لكل مسالم لا يؤذي الإسلام ولا يكيد للمسلمين !
ولقد كان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول من يؤمن بالرسالة الجديدة ويؤمن للرسول الجديد ؛ مذ كان القرآن يصدق ما جاء في التوراة في عمومه ؛ ومذ كانوا هم يتوقعون رسالة هذا الرسول ، وعندهم أوصافه في البشارات التي يتضمنها كتابهم ؛ وهم كانوا يستفتحون به على العرب المشركين .
وهذا الدرس هو الشطر الأول من هذه الجولة الواسعة مع بني إسرائيل ؛ بل هذه الحملة الشاملة لكشف موقفهم وفضح كيدهم ؛ بعد استنفاد كل وسائل الدعوة معهم لترغيبهم في الإسلام ، والانضمام إلى موكب الإيمان بالدين الجديد .
تناسق موضوعات الوحدة الثالثة يبدأ هذا الدرس بنداء علوي جليل إلى بني إسرائيل ، يذكرهم بنعمته - تعالى - عليهم ويدعوهم إلى الوفاء بعهدهم معه ليوفي بعهده معهم ، وإلى تقواه وخشيته ؛ يمهد بها لدعوتهم إلى الإيمان بما أنزله مصدقا لما معهم . ويندد بموقفهم منه ، وكفرهم به أول من يكفر ! كما يندد بتلبيسهم الحق بالباطل وكتمان الحق ليموهوا على الناس - وعلى المسلمين خاصة - ويشيعوا الفتنة والبلبلة في الصف الإسلامي ، والشك والارتياب في نفوس الداخلين في الإسلام الجديد . ويأمرهم أن يدخلوا في الصف . فيقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويركعوا مع الراكعين ، مستعينين على قهر نفوسهم وتطويعها للاندماج في الدين الجديد بالصبر والصلاة . وينكر عليهم أن يكونوا يدعون المشركين إلى الإيمان ، وهم في الوقت ذاته يأبون أن يدخلوا في دين الله مسلمين !
ثم يبدأ في تذكيرهم بنعم الله التي أسبغها عليهم في تاريخهم الطويل . مخاطبا الحاضرين منهم كما لو كانوا هم الذين تلقوا هذه النعم على عهد موسى - عليه السلام - وذلك باعتبار أنهم أمة واحدة متضامنة الأجيال ، متحدة الجبلة . كما هم في حقيقة الأمر وفق ما بدا من صفاتهم ومواقفهم في جميع العصور !
ويعاود تخويفهم باليوم الذي يخاف ، حيث لا تجزيء نفس عن نفس شيئا ، ولا يقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها فدية ، ولا يجدون من ينصرهم ويعصمهم من العذاب .
ويستحضر أمام خيالهم مشهد نجاتهم من فرعون وملئه كأنه حاضر . ومشهد النعم الأخرى التي ظلت تتوالى عليهم من تظليل الغمام إلى المن والسلوى إلى تفجير الصخر بالماء . . ثم يذكرهم بما كان منهم بعد ذلك من انحرافات متوالية ، ما يكاد يردهم عن واحدة منها حتى يعودوا إلى أخرى ، وما يكاد يعفو عنهم من معصية حتى يقعوا في خطيئة ، وما يكادون ينجون من عثرة حتى يقعوا في حفرة . . ونفوسهم هي هي في التوائها وعنادها وإصرارها على الالتواء والعناد ، كما أنها هي هي في ضعفها عن حمل التكاليف ، ونكولها عن الأمانة ، ونكثها للعهد ، ونقضها للمواثيق مع ربها ومع نبيها . . حتى لتبلغ أن تقتل أنبياءها بغير الحق ، وتكفر بآيات ربها ، وتعبد العجل وتجدف في حق الله فترفض الإيمان لنبيها حتى ترى الله جهرة ؛ وتخالف عما أوصاها به الله وهي تدخل القرية فتفعل وتقول غير ما أمرت به ؛ وتعتدي في السبت ، وتنسى ميثاق الطور ، وتماحل وتجادل في ذبح البقرة التي أمر الله بذبحها لحكمة خاصة . . . وهذا كله مع الإدعاء العريض بأنها هي وحدها المهتدية ؛ وأن الله لا يرضى إلا عنها ، وأن جميع الأديان باطلة وجميع الأمم ضالة عداها ! مما يبطله القرآن في هذه الجولة ، ويقرر أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من جميع الملل ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .
حكمة الحديث المطول عن اليهود هذه الحملة - سواء ما ورد منها في هذا الدرس وما يلي منها في سياق السورة - كانت ضرورية أولا وقبل كل شيء لتحطيم دعاوى يهود ، وكشف كيدها ، وبيان حقيقتها وحقيقة دوافعها في الدس للإسلام والمسلمين . كما كانت ضرورية لتفتيح عيون المسلمين وقلوبهم لهذه الدسائس والمكايد التي توجه إلى مجتمعهم الجديد ، وإلى الأصول التي يقوم عليها ؛ كما توجه إلى وحدة الصف المسلم لخلخلته وإشاعة الفتنة فيه .
ومن جانب آخر كانت ضرورية لتحذير المسلمين من مزالق الطريق التي عثرت فيها أقدام الأمة المستخلفة قبلهم ، فحرمت مقام الخلافة ، وسلبت شرف القيام على أمانة الله في الأرض ، ومنهجه لقيادة البشر . وقد تخللت هذه الحملة توجيهات ظاهرة وخفية للمسلمين لتحذيرهم من تلك المزالق كما سيجيء في الشطر الثاني منها .
وما كان أحوج الجماعة المسلمة في المدينة إلى هذه وتلك . وما أحوج الأمة المسلمة في كل وقت إلى تملي هذه التوجيهات ، وإلى دراسة هذا القرآن بالعين المفتوحة والحس البصير ، لتتلقى منه تعليمات القيادة الإلهية العلوية في معاركها التي تخوضها مع أعدائها التقليديين ؛ ولتعرف منها كيف ترد على الكيد العميق الخبيث الذي يوجهونه إليها دائبين ، بأخفى الوسائل ، وأمكر الطرق . وما يملك قلب لم يهتد بنور الإيمان ، ولم يتلق التوجيه من تلك القيادة المطلعة على السر والعلن والباطن والظاهر ، أن يدرك المسالك والدروب الخفية الخبيثة التي يتدسس فيها ذلك الكيد الخبيث المريب . . .
تناسق الحديث عن اليهود مع السياق ثم نلحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في الأداء القرآني ، أن بدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم ، وبالإيحاءات التي أشرنا إليها هناك ، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه:
لقد مضى السياق قبل ذلك بتقرير أن الله خلق ما في الأرض جميعا للإنسان . ثم بقصة استخلاف آدم في الأرض بعهد الله الصريح الدقيق ؛ وتكريمه على الملائكة ؛ والوصية والنسيان ، والندم والتوبة ، والهداية والمغفرة ، وتزويده بالتجربة الأولى في الصراع الطويل في الأرض ، بين قوى الشر والفساد والهدم ممثلة في إبليس ، وقوى الخير والصلاح والبناء ممثلة في الإنسان المعتصم بالإيمان .
مضى السياق بهذا كله في السورة . ثم أعقبه بهذه الجولة مع بني إسرائيل ، فذكر عهد الله معهم ونكثهم له ؛ ونعمته عليهم وجحودهم بها ؛ ورتب على هذا حرمانهم من الخلافة ، وكتب عليهم الذلة ، وحذر المؤمنين كيدهم كما حذرهم مزالقهم . فكانت هناك صلة ظاهرة بين قصة استخلاف آدم وقصة استخلاف بني إسرائيل ، واتساق في السياق واضح وفي الأداء . والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل ، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب . وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا ، ولكنها هناك كانت تذكر - مع غيرها - لتثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة ، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة . فأما هنا فالقصد هو ما أسلفنا من كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها ، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود . . وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض ؛ وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة [ كما سيجيء عند استعراض السور المكية السابقة في ترتيب النزول ] .
ومن مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق الذي عرضت فيه ، متممة لأهدافه وتوجيهاته . . وهي هنا متسقة مع السياق قبلها . سياق تكريم الإنسان ، والعهد إليه والنسيان . متضمنة إشارات إلى وحدة الإنسانية ، ووحدة دين الله المنزل إليها ، ووحدة رسالاته ، مع لفتات ولمسات للنفس البشرية ومقوماتها ، وإلى عواقب الانحراف عن هذه المقومات التي نيطت بها خلافة الإنسان في الأرض ؛ فمن كفر بها كفر بإنسانيته وفقد أسباب خلافته ، وارتكس في عالم الحيوان .
وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم ؛ والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة ، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة ، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى . .
فلننظر بعد هذا الإجمال في استعراض النص القرآني:
الدرس الأول:40 - 46 : توجيهات قرآنية لليهود
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين . الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ، وأنهم إليه راجعون . .
إن المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم ، ومن الجحود المنكر المتكرر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار . . وهنا يذكرهم الله بنعمته التي انعمها عليهم إجمالا ، قبل البدء في تفصيل بعضها في الفقر التالية . يذكرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم معه - سبحانه - كي يتم عليهم النعمة ويمد لهم في الآلاء:
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم . .
فأي عهد هذا الذي يشار إليه في هذا المقام ؟ أهو العهد الأول ، عهد الله لآدم: فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . ؟ أم هو العهد الكوني السابق على عهد الله هذا مع آدم . العهد المعقود بين فطرة الإنسان وبارئه:أن يعرفه ويعبده وحده لا شريك له . وهو العهد الذي لا يحتاج إلى بيان ، ولا يحتاج إلى برهان ، لأن فطرة الإنسان بذاتها تتجه إليه بأشواقها اللدنية ، ولا يصدها عنه إلا الغواية والانحراف ؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله لإبراهيم جد إسرائيل . والذي سيجيء في سياق السورة: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ، قال:إني جاعلك للناس إماما ، قال:ومن ذريتي ؟ قال:لا ينال عهدي الظالمين . . ؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله على بني إسرائيل وقد رفع فوقهم الطور ، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة والذي سيأتي ذكره في هذه الجولة ؟
إن هذه العهود جميعا إن هي إلا عهد واحد في صميمها . إنه العهد بين الباريء وعباده أن يصغوا قلوبهم إليه ، وأن يسلموا أنفسهم كلها له . وهذا هو الدين الواحد . وهذا هو الإسلام الذي جاء به الرسل جميعا ؛ وسار موكب الإيمان يحمله شعارا له على مدار القرون .
ووفاء بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه وحده وأن يفردوه بالخشية:
وإياي فارهبون . .
ووفاء بهذا العهد كذلك يدعو الله بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله على رسوله ، مصدقا لما معهم ؛ وألا يسارعوا إلى الكفر به ، فيصبحوا أول الكافرين ؛ وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين:
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به . .
فما الإسلام الذي جاء به محمد [ ص ] إلا الدين الواحد الخالد . جاء به في صورته الأخيرة ؛ وهو امتداد لرسالة الله ، ولعهد الله منذ البشرية الأولى ، يضم جناحيه على ما مضى ، ويأخذ بيد البشرية فيما سيأتي ؛ ويوحد بين "العهد القديم " و "العهد الجديد " ويضيف ما أراده الله من الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل ؛ ويجمع بذلك بين البشر كلهم إخوة متعارفين ؛ يلتقون على عهد الله ، ودين الله ؛ لا يتفرقون شيعا وأحزابا ، وأقواما وأجناسا ؛ ولكن يلتقون عبادا لله ، مستمسكين جميعا بعهده الذي لا يتبدل منذ فجر الحياة .
وينهى الله بني إسرائيل أن يكون كفرهم بما أنزله مصدقا لما معهم ، شراء للدنيا بالآخرة ، وإيثارا لما بين أيديهم من مصالح خاصة لهم - وبخاصة أحبارهم الذي يخشون أن يؤمنوا بالإسلام فيخسروا رياستهم ، وما تدره عليهم من منافع وإتاوات - ويدعوهم إلى خشيته وحده وتقواه . .
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . .
والثمن والمال والكسب الدنيوي المادي . . كله شنشنة يهود من قديم !! وقد يكون المقصود بالنهي هنا هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية والفتاوى المكذوبة ، وتحريف الأحكام حتى لا تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء ، كما ورد في مواضع أخرى ، واستبقاء هذا كله في أيديهم بصد شعبهم كله عن الدخول في الإسلام ، حيث تفلت منهم القيادة والرياسة . . على أن الدنيا كلها - كما قال بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية - ثمن قليل ، حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله ، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله .
ويمضي السياق يحذرهم ما كانوا يزاولونه من تلبيس الحق بالباطل ، وكتمان الحق وهم يعلمونه ، بقصد بلبلة الأفكار في المجتمع المسلم ، وإشاعة الشك والاضطراب: ولا تلبسوا الحق بالباطل . وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . .
ولقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة عرضت لهم ، كما فصل القرآن في مواضع منه كثيرة ؛ وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي ، وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم . وسيأتي من أمثلة هذا التلبيس الشيء الكثير !
ثم يدعوهم إلى الاندماج في موكب الإيمان ، والدخول في الصف ، وأداء عباداته المفروضة ، وترك هذه العزلة والتعصب الذميم ، وهو ما عرفت به يهود من قديم:
وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، واركعوا مع الراكعين . .
ثم ينكر عليهم - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين ، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله ، المصدق لدينهم القديم:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ . .
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل .
إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه ؛ ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى ، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان يفعل أحبار يهود !
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .
إن الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .
والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه . ومن ثم يوجه القرآن اليهود الذين كان يواجههم أولا ، ويوجه الناس كلهم ضمنا ، إلى الاستعانة بالصبر والاستعانة بالصلاة . . وفي حالة اليهود كان مطلوبا منهم أن يؤثروا الحق الذي يعلمونه على المركز الخاص الذي يتمتعون به في المدينة ، وعلى الثمن القليل - سواء كان ثمن الخدمات الدينية أو هو الدنيا كلها - وأن يدخلوا في موكب الإيمان وهم يدعون الناس إلى الإيمان ! وكان هذا كله يقتضي قوة وشجاعة وتجردا . واستعانة بالصبر والصلاة:
واستعينوا بالصبر والصلاة . وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ، وأنهم إليه راجعون . .
والغالب أن الضمير في أنها ضمير الشأن ، أي إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصعبة وشاقة ، إلا على الخاشعين الخاضعين لله ، الشاعرين بخشيته وتقواه ، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين .
مواضيع مماثلة
» عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه
» عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه
» عن أنس ـ رضي الله عنه
» متى نصر الله ...؟؟؟
» عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه
» عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه
» عن أنس ـ رضي الله عنه
» متى نصر الله ...؟؟؟
» عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى